الكاتب الفيلسوف، أو الفيلسوف الحكّاء؟

 


الكاتب الفيلسوف، أو الفيلسوف الحكّاء؟

هل يمكن للكتابة أن تكون فلسفة؟ وهل للفلسفة أن تُروى؟ بين الكاتب الذي يتأمل في عمق العالم ويبحث عن خلاصاته بالكلمات، والفيلسوف الذي يسرد أفكاره في هيئة حكاية، يتكوّن فضاءٌ رماديّ غنيّ بالتقاطعات. هذه المنطقة التي لا تنتمي بالكامل إلى الأدب ولا تستقر تمامًا في حدود الفلسفة، تشبه الهامش الذي يغري أكثر من المتن، وتكون فيه الأسئلة أكثر حضورًا من الأجوبة، واللغة أكثر من مجرد وسيلة تعبير. هنا، حيث يُصبح الكاتب فيلسوفًا دون أن يدري، ويغدو الفيلسوف حكّاءً دون أن يعترف.

ليس هذا سؤالًا عابرًا في ممرات الفكر، بل هو جذر من جذور العلاقة المتينة بين الحكاية والسؤال، بين المعنى والمجاز، بين الخطاب العقلي والخطاب الرمزي. ففي تاريخ الفكر البشري، لطالما تساءل الناس عن الكيفية التي يمكن بها للأفكار الكبرى أن تُنقل دون أن تُحشر في قوالبٍ جامدة. ولطالما كانت الحكاية، أو ما نسميه بالأدب، وسيطًا قادرًا على تمرير الأنساق الفلسفية في هيئة رموز، صور، ومواقف.

ننظر في هذا السياق إلى أمثلة من الفلاسفة الذين استعاروا عباءة الأدب، وكتابٍ استعانوا بعتاد الفلسفة. أفلاطون نفسه، الأب الرمزي للفكر الغربي، لم يكتب فلسفته على هيئة نظريات أو مقالات، بل صاغها في محاوراتٍ أدبية يتجادل فيها سقراط مع محاوريه حول الفضيلة والعدالة والحب. هذا الشكل الأدبي لم يكن مجرد وعاء جمالي، بل كان ضرورة فكرية، لأن الفكرة – كما يبدو – لا تُقال إلا إذا جُعل لها سياقٌ يُعاش وتُروى فيه.

وليس أفلاطون وحده من فعل ذلك. فنيتشه، الذي يمكن اعتباره أكثر الفلاسفة حكائيةً، كتب بأسلوبٍ شعري أقرب إلى الأدب منه إلى النسق المنطقي. كتابه الشهير "هكذا تكلم زرادشت" ليس أطروحة أكاديمية، بل ملحمة فكرية يتكلم فيها نبيّ متخيَّل يُلقي خطاباته بلغة رمزية مكثفة، تمتزج فيها الحكمة بالتأمل، والتمرد بالحب، والإنكار بالإيمان الجديد. لم تكن الفكرة لدى نيتشه تُقال، بل تُشعر، وتُعاش، وتُذوّق، كما لو أنها قصيدة، لا يمكن شرحها بل يجب أن تُختبر.

في المقابل، لدينا أدباءٌ لم يكتفوا بأن يكونوا رواة أو شعراء، بل حملوا داخل كتاباتهم أسئلة كبرى عن الإنسان، الوجود، الزمن، والعدالة. ألبير كامو، مثلًا، ليس فيلسوفًا بالمعنى الأكاديمي، لكنه طرح في رواياته ومقالاته الفكرية إشكاليات وجودية عميقة، مثل العبث والتمرد واللامعنى. روايته "الغريب" ليست قصة عادية، بل هي تجربة فلسفية مكتوبة بصيغة حكائية، فيها يتقاطع الحدث بالسؤال، ويتحول الصمت إلى موقفٍ ميتافيزيقي.

نفس الأمر يمكن قوله عن دوستويفسكي. هذا الروائي الروسي لم يكن فيلسوفًا نظريًا، لكنه استطاع أن يجسد، من خلال شخصياته، إشكاليات أخلاقية وروحية معقدة. في "الإخوة كارامازوف"، على سبيل المثال، تتحول الحوارات إلى فضاءات تأملية، تُطرح فيها أسئلة عن الله، والشر، والحرية، والمعاناة. لا أحد يستطيع أن يقرأ "الاعترافات" أو "الجريمة والعقاب" دون أن يشعر أن ما يُقال يتجاوز الحكاية إلى ما يشبه محاكمةً كونية للوجود.

ما الذي يجعل الكاتب فيلسوفًا؟ أهو عمق التساؤل؟ أم قدرته على النفاذ إلى جوهر الظواهر؟ أم لعلّ الفلسفة في أصلها كانت فعل حكاية، وأننا حين نكتب، فإننا نستدعي أولئك الذين رووا الوجود بلغتهم الخاصة؟

ربما علينا أن نعيد تعريف الفلسفة نفسها. فبعيدًا عن القوالب الأكاديمية، يمكن القول إن الفلسفة هي الطريقة التي ننظر بها إلى الحياة، واللغة التي نعبر بها عن هذه النظرة. وإذا كان الكاتب الصادق يكتب انطلاقًا من موقف وجودي عميق، فإنه يقترب حتمًا من الفلسفة، حتى لو لم يستخدم مصطلحاتها. إذ يكفي أن يتساءل، أو يشكك، أو يتأمل، كي يكون جزءًا من تقليدٍ طويل من "الفلسفة غير المعلنة".

لكننا ننسى أحيانًا أن الحكاية نفسها كانت، عبر التاريخ، وسيطًا للمعرفة، بل وسيلة لتعليم القيم ونقل الخبرات. من الأساطير الإغريقية إلى الأمثال الشعبية، من الحكايات الصوفية إلى روايات ما بعد الحداثة، ثمة خيطٌ ناظم يربط بين أن نحكي وبين أن نفهم. الفيلسوف الذي لا يعرف كيف يحكي، كثيرًا ما يُخفق في إيصال فكرته، أما الحكّاء الذي لا يمتلك سؤالًا عميقًا، فيقع في سطحية الحكاية.

ولعل هذا ما يفسر لنا انجذاب القراء إلى كتاباتٍ هجينة، لا تنتمي إلى حقل واحد، بل تعبر الحدود وتكسر التصنيفات. كتاب مثل "الطريق إلى اللا معنى" لميلان كونديرا، أو "اللامنتمي" لكولن ولسون، أو "فن العيش" لآلان دو بوتون، تمثل نموذجًا لهذا التداخل، حيث تكتب الفلسفة بلغة الحياة، وتُروى الحياة بلغة التأمل.

الفارق الجوهري هنا ليس بين الفيلسوف والكاتب، بل بين من يكتب ليقنع، ومن يكتب ليُشرك القارئ في تجربة تفكير. الفيلسوف الحكّاء لا يفرض خلاصاته، بل يترك الباب مواربًا، يطرح الأسئلة أكثر مما يُجيب، ويُخاطب القارئ بوصفه شريكًا في صناعة المعنى. كذلك الكاتب الفيلسوف، لا يكتفي بأن يسرد قصة، بل يجعل من كل فقرة تمرينًا على النظر، وكل شخصية مرآة لإشكالٍ فلسفي.

في زمننا الراهن، حيث تهيمن السرعة، وتُختصر المعاني في عناوين، تبدو الحاجة إلى هذا النمط من الكتابة – الكتابة المتفلسفة أو المتحكِّية – أكثر إلحاحًا. ليس لأننا نحتاج إلى معرفة جديدة، بل لأننا نحتاج إلى طرق جديدة لرؤية هذه المعرفة. أن تحوّل الفكر إلى تجربة سردية، يعني أنك تمنح القارئ قدرةً على لمس المعنى، لا فقط فهمه. وأن تكتب الحكاية بصيغة فلسفية، يعني أنك لا تروي ما حدث، بل تبحث عن ما يعنيه أن يحدث شيء.

الفلسفة ليست حكرًا على الجامعات، كما أن الأدب ليس مجرد ترفٍ جمالي. حين نعيد وصل ما فُصل بينهما، نكتشف أن الإنسان في جوهره كائنٌ يسأل ويحكي، يفكر ويتخيل، يتأمل ويكتب. ولهذا، فالسؤال ليس: هل كان نيتشه روائيًا؟ أو هل كان كافكا فيلسوفًا؟ بل: ما الذي يمنع أن يكون الفكر سردًا، والسرد فكرًا؟

ربما لن نعثر على إجابةٍ قاطعة. وربما يكون سر هذا السؤال في أنه يظل مفتوحًا. لكن يكفينا أن نعيد طرحه، في كل مرة نقرأ فيها رواية تُحرّك أسئلتنا بدل أن تروي ظمأنا، أو نصًا فلسفيًا يجعلنا نبكي دون أن نفهم لماذا. هناك، في هذا التماس، تتكوّن أعظم النصوص.


الكاتب الفيلسوف، الفيلسوف الحكّاء، العلاقة بين الأدب والفلسفة، فلسفة الأدب، الأدب الفلسفي، نيتشه والأدب، أفلاطون والحكاية، دوستويفسكي والفكر، كاتب وفيلسوف، الأدب كأداة فلسفية، الفلسفة في الرواية، سرد فلسفي، الحكاية والتفكير، كامو والعبث، الروائي الفيلسوف، التفكير الأدبي، فلسفة نيتشه، الفكر في الأدب، الحكاية الفلسفية، الفرق بين الكاتب والفيلسوف، معنى الفلسفة في الأدب، الأدب الوجودي، أسئلة فلسفية في الرواية، الفلسفة عبر السرد، التفكير الوجودي، الرواية والتأمل، الفلسفة بأسلوب أدبي، فكر نيتشه وسرد زرادشت، الكتابة العميقة، الرواية الفلسفية، نصوص تأملية، التأملات الأدبية، الحكاية كأداة فلسفية، قراءة فلسفية للأدب، أدب الفكر، الحكاية كفلسفة.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال