حين يصير الوطن استعارة: الأدب في زمن التشظّي.
يوسف يعقوب
كأن الوطن لم يعد مكانًا نعود إليه، بل فكرة تتسلل إلينا في الغياب. لم يعد ترابًا ولا بيتًا ولا شجرة زيتون نحتمي بها من الزمن، بل صار استعارة ثقيلة نعلقها على جدار النصوص، نحاول بها أن نمنح الكتابة دفقة حياة في زمن صار فيه كل شيء عرضة للتفتت، حتى الفكرة ذاتها. لم يعد الأدب يحتمل أن يصف الوطن بوصف مباشر، فكل وصف يبدو الآن مبتذلًا، مسروقًا، مكررًا. صرنا نكتب عن الوطن كما يكتب العشاق عن الحب بعد الفقد: بشيء من النُدبة، وشيء من الشوق الذي لا يعوّضه لقاء.
في زمن التشظّي، حين يتكسر المعنى، يصبح الأدب هو الملاذ الأخير. ليس لأنه يعيد بناء ما تهدم، بل لأنه يمنح التهشيم صيغة إنسانية، يجعل من الفقد نصًا، ومن الانكسار استعارة، ومن التيه خريطة داخلية تبرر هذا الجنون الذي يحكم الوعي الجمعي. كلما اشتدّ النزيف السياسي، وانفتح الجرح الوجودي على اتساعه، وجد الأدب نفسه مضطرًا للبحث عن لغة أخرى، لا تحاكي الواقع بل تنفجر منه، لا تُقلّد الألم بل تُجسّده، لا تسرد ما حدث فقط، بل ما لم يحدث أيضًا، ما كان يجب أن يحدث ولم يحدث أبدًا.
لم يعد "الوطن" في الرواية مجرّد مكان، بل صار حالة ذهنية، وعيًا متوترًا، حاضرًا غائبًا، نكتب عنه من الخارج كأننا نطلّ على أنفسنا من منفى داخلي. حين كتب جبرا إبراهيم جبرا عن "البحث عن وليد مسعود"، لم يكن يبحث عن رجل فحسب، بل عن وطن داخل الرجل، عن هوية ضاعت بين الضباب والنكسة والمنفى. كان وليد مسعود صورة وطن تشظّى في الذاكرة أكثر مما تشظّى في الجغرافيا. وكأن الوطن لا يُفقد فقط عندما يُحتل، بل عندما نعجز عن تمثيله، عن التعبير عنه، عن استحضاره دون أن نكسره أكثر.
الأدب لا يوثّق الوطن، بل يُعيد تشكيله. وهنا تكمن خطورته. لأن الكاتب لا يكتب الحقيقة بل يخلقها، لا ينقل صورة الوطن بل يرسمه بلونه الخاص، بدمه أحيانًا، بجراحه غالبًا. لذلك تتحوّل الرواية الفلسطينية، مثلًا، إلى حقل ألغام جمالي، كل نصّ فيها مشتبَه به، كل استعارة قد تجرّ نحو مواجهة مع الذات أو مع الآخر أو مع الدولة. كل محاولة لتسمية الأشياء بأسمائها تُعد خيانة للأسلوب، وكل محاولة للهروب من التسمية تُعد خيانة للذاكرة.
الشتات ليس جغرافيًا فقط، بل لغوي أيضًا. اللغة، التي يُفترض أن تكون وطن الكاتب الأول، تصبح هي الأخرى مساحة قلق. كيف نكتب عن "الوطن" بلغة خائفة، ملاحقة، مراقبة؟ كيف نصنع سردًا مقاومًا بلغة خضعت للرقابة قبل أن تخضع للمعنى؟ هنا تأتي الاستعارة لا كترف بل كضرورة، كوسيلة دفاع، كصوت خفيض يمر تحت الرادار، يحمل المعنى دون أن يصرخ به، يوشوش القارئ بدل أن يخطب فيه. لأن في هذا الزمن، لم تعد الحقيقة تُقال، بل تُهمَس.
حين نقرأ محمود درويش في "أثر الفراشة"، ندرك أن الوطن لم يعد جبالًا وبحرًا ونهرًا، بل فكرة "البيت" حين نفقده، طعم الخبز حين نُمنع منه، ظلّ الأم في ذاكرة طفل مات قبل أن يكتمل الوطن فيه. يصير الوطن ميتافيزيقيًا، منفيًا، شبحًا يسكن اللغة أكثر مما يسكن الأرض. من هنا جاءت استعارة الوطن لا كخدعة بل كخلاص، لأن المباشرة صارت مستحيلة، والرمز صار ضرورة لا زينة.
حتى في الأدب غير السياسي ظاهريًا، نجد هذا القلق المتواري، هذا التهشيم الصامت. في روايات مثل "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، نجد أن الوطن ليس هو السودان فحسب، بل هو الذات الممزقة بين الثقافتين، بين الغربة التي تُفرض والغربة التي تُختار. وفي "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، يذوب الوطن داخل الخزان المعدني، يصير حفنة عرق وخيبة ووجع لا يُروى. كأن الوطن هو ما نكتشفه لحظة الموت، لا لحظة الحياة.
لماذا هذا التشظّي؟ لأن التاريخ ذاته صار مجروحًا، محاطًا بالروايات المتضاربة، بالهويات المتنازعة، بالسرديات الكبرى التي انهارت. لم تعد هناك حكاية واحدة للوطن، بل شظايا حكايات، لا تكتمل إلا في الأدب، وربما لا تكتمل أبدًا. وهنا، يتحوّل الأدب من مرآة إلى فسيفساء، من وثيقة إلى حلم، من سردية إلى سؤال.
وفي هذا السياق، لا بد من أن نتساءل: هل الأدب العربي عمومًا، والفلسطيني خصوصًا، كان قدره دائمًا أن يُكتب من الخارج؟ من المنفى، من الشتات، من الهامش؟ أليست هذه المسافة بالذات ما منحته القدرة على تحويل الوطن إلى استعارة؟ وربما هذا هو الجواب المُرّ: أن الوطن حين يُفقد، يصير أكثر حضورًا في الكتابة، كأن الكتابة لا تزدهر إلا على أطراف الجراح.
وهذا لا يعني أن الأدب صار عزاءً، أو بديلاً، بل يعني أنه صار مقاومة من نوع آخر، مقاومة المعنى ضد التفكك، مقاومة الذاكرة ضد النسيان، مقاومة الروح ضد الابتذال. ففي كل استعارة عن الوطن، ثمة جمر مشتعل تحت الرماد، ثمة صرخة صامتة، ثمة حنين لا يريد أن يُشفى. ومن هنا، فإن الأدب حين يُكتب في زمن التشظّي، لا يكون فقط تمرينًا جماليًا، بل تمرينًا وجوديًا، دفاعًا عن الذات حين لا يبقى سواها.
أحيانًا، أشعر أن الكاتب في هذا الزمن أشبه بمنقّب في أطلال ذاكرته، يبحث عن فتات وطن بين الركام، يحاول أن يلصق الشظايا معًا، لا ليعيد بناء الصورة، بل ليحافظ على احتمالها. لأن الوطن، كما يقول إدوارد سعيد، ليس فقط ما نملك، بل ما نفتقد. والافتقاد هو ما يجعل الأدب ضروريًا، والكتابة فعلاً أخلاقيًا قبل أن تكون جماليًا.
في النهاية، حين يصير الوطن استعارة، يصبح كل كاتب شاهدًا، لا على ما جرى فقط، بل على ما لم يُكتب بعد. لأن النصّ الحقيقي عن الوطن لا يُكتب إلا حين نتجاوزه، حين نحمله كأثر لا كصورة، كحلم لا كحدود، كحكاية لا كخريطة. وهذه هي مهمة الأدب الآن: أن يحرس الحكاية من الموت، أن يكتب الوطن لا كما هو، بل كما يجب أن يكون.